عباس علي عبود - لسان الرمل المبين
سطور عن المؤلف
عباس علي عبود، روائي وقاص. كتب الشعر والمسرحية، ولد في السودان. النيل الأبيض. الكوة
صدرت له مجموعة أعمال هي:
ـ صهيل الفجر الغامض: (مجموعة قصصية) الحضارة للنشر- القاهرة 2008
ـ طقوس الرحيل: (الطبعة الثانية) الحضارة للنشر- القاهرة 2009
ـ مرافئ السراب: (رواية) الحضارة للنشر- القاهرة 2010
ـ قبسٌ من مدارات الحنين: (رواية) القاهرة 2012
ـ أساطير الأنهار: (رواية) القاهرة 2013
ـ السارية: (رواية) الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016
ـ مفازة الإياب: (رواية) القاهرة 2017
ـ طير الإشراق: (رواية) درا الريم للطباعة والنشر- الخرطوم 2020
ـ الدعاش: مسرحية كتبت في القاهرة ونشرت في صحيفة الخرطوم في مارس 1995 قدمها الطلاب السودانيون على خشبة مسرح قصر الطلاب بمدينة أوديسا على البحر الأسود. يوم السبت 11 نوفمبر 1996
ـ ما تيسر من أقوال الشهود: (مسرحية)..
ـ شظايا الأحلام: (شعر).
(أنظر ادناه: المؤلف بقلمه)
هذا الكتاب
عمل روائي ثري، مثير، من مستوى الأعمال الادبية الكلاسيكية التي تشد القارئ ابتداء من سطورها الأولى ليكتشف عالما فسيحا لمصائر انسانية متقلبة.
في مقتطف من الرواية:
وسط الأشجار الكثيفة، كانت إحدى التَّوأم جريحةً في ساقها اليمنى، بينما الأخرى تحاول وقف النزيف. مزَّقت طرف ردائها؛ لتحصل على قطعةَ قماشٍ تضمِّدُ بها الساق النازفة. كان الليلُ رطبًا، والظلامُ حالكًا، والانتظارُ مريرًا. كانت الدقائق تمضي عسيرةً، وكلَّما نَزَفَ الجرحُ، مزَّقت التَّوأم الأخرى، قطعةً جديدةً من ردائها؛ لِتُحْكِمَ ربط الساق. ومع خيوط الفجر الأولى، أسرعت الخطى حتى وقفت عند شجرةٍ سامقةٍ، وساقها أبيض. بأسنانها نهشت لحاء الساق وهي تسابق الزمن. انتزعت شريحةً من الساق الأبيض، ثم عادت مسرعةً إلى أختها. كانت الجريحةُ تغمغمُ بعدما فقدت كميةً من الدم. فكَّت التَّوأم الأخرى القطع الملطخة بالدماء، ثم وضعت اللحاء على الجرح، وربطته بقطعة نظيفة. وحين توقَّف النزيف، أغمضت الجريحةُ عينيها..
قبيل شروق الشمس توافد الأهالي إلى كوخ الحدَّاد، ليشاهدوا قطرات الدم، المتناثرة على مدخل الكوخ: (أين هما الآن؟).. تساءل أحدهم فأجابه أكثر من واحد: (لا يوجد أثرٌ للتوأم! ربَّما هربتا إلى عمق الغابة).. (لا).. قالها الكجور، ثم أضاف: (ربَّما حدث أمرٌ ما).. (وما هو؟).. تساءلوا في صوتٍ واحد.. تفحَّص الكجور قطرات الدم قبل أن يقول: (سنعرف في الوقت المناسب. أما الآن، فهلموا لنبحث عنهما، لأنَّ اختفاءهما بعد هذه الحادثة يُنذر بالشَّر).. حول كوخ التَّوأم اجتمعوا مرةً أخرى، بعدما أمضوا نهارهم في البحث دون جدوى. امرأةٌ شابةٌ دخلت الكوخ وخرجت لتقول إنَّهما نائمتان، وإحداهما جريحة. سرت الهمهمة، والأسئلة، وأطياف الخوف.
ظلت الجريحة طريحة الفراش، بينما الأخرى تخرج وحيدةً لجلب الطعام من الخالات والعمات. الكجور زار الجريحة وقال إنَّها ستشفى، لكنَّها الآن ضعيفةٌ، لأنَّها نزفت كثيرًا من الدماء. وقالوا حلَّت اللعنة بالحدَّاد، وذهبوا ليتأكدوا بأنفسهم.. كان الحدَّاد قد فقدَ القدرة على العمل. رعشةٌ قويةٌ تعتري كفيه عندما يشرع في العمل. وحين يترك قطع الحديد، تعود الكفان لحالتهما الطبيعية. ولمَّا سُئِلَ الكجور عن مرض الحدَّاد قال لهم أمهلوني لأيَّام..
مقتطف
عادة ما تكون النافذة الأولى -Direct- هي الأوفر، بينما النوافذ الأخرى تتضمن استقطاعات تصل الى 73 بالمئة
نوافذ النسخة الإلكترونية
هذه النوافذ هي شركات توزيع كبرى، توفر سبيلا مستقلا لتسجيل المبيعات، وآمنا لاستخدام بطاقات الإئتمان. النافذة الأولى منها هي نسخة المطبعة، ولا تتضمن حقوقا للمؤلف
نوافذ النسخة الورقية
المؤلف بقلمه: الحكاية هي المأوى
ربَّما كانت هي المأوى من الواقع الغامض، المراوغ، المجهول. هي الحكاية إذن، ترويها أمي ونحن أطفال دون السابعة. كان المساء يخيِّم فوق البيوت، والظلمة تهيمن، تُفصِح النفوس عن حيرتها، وخوفها، ورغبتها في الهروب من دوامة الواقع، إلى مرفأ الحكاية، إلى المأوى. كنا ننام على أسرَّة حولها، وهي تحكي عن عوالم أم كشَّونة، وساحرات النهر. وعن أمٍّ تحمي أطفالها في سياق السرد. كأنَّ الواقع الافتراضي هو الأصل المسيطر عليه، والموجَّه صوب الأمان.
ينقضي النهار في المعافرة واللعب، ويتحول الليل إلى منجم الحكاية.. كنت أتأمَّل النجوم، والقمر، والسماء الداكنة الزرقة. أبني عوالم من الخيال تضمُّ الأهل والصحاب. ويجنح الخيال إلى مدارات الغموض، والرهبة. في تلك الوحشة الضارية، والأفق المعتم، هل تمنحنا الحكاية الأمان والمأوى؟
ظلَّ النهر موطن الخوف ليلًا، ومأوى الحياة نهارًا. قبيل الشروق حين ينطلق البوق المصنوع من قرون الأبقار، يعلم الأهالي أنَّ النواتية وصلوا إلى الشاطئ، فيتقاطرون لشراء السمك. أسمع البوق فأنهض إلى الحائط الطيني، أتطلع من فوقه إلى النهر الذي يفصلنا عنه ميدان لكرة القدم. أحيانًا أستمتع بمشاهدة الطيور المحلِّقة. وأحيانًا أخرى أقفز من فوق الحائط وأركض إلى الشاطئ لمراقبة حركة البيع والشراء. فالنهر هو الحياة نهارًا، والحكاية هي المأوى ليلًا. والطفولة المرحة، الجميلة، تبدو حيال الحكاية غبارًا يتبدَّد. وانطلاقًا من الحكاية كأصل، يؤول الواقع إلى فنتازيا.
وعندما تفرد الأحلام أشرعة الرَّحيل، تلوح شواطئ الكلام كمرفأ قديم، نسجته خيوط الشموس الغاربة. تنفلت أطياف الحكاية من قوس الأحداث. هكذا رفَّ بقلبي الخوف، والأمل، حين تدلَّت على كتفي حقيبتي المدرسية، التي خاطتها أمي بيديها. كانت الخيوط البيضاء ظاهرة على قماش الدمورية بلون سنابل القمح اليابسة. كانت رحلتي الأولى إلى المدرسة تلميذًا. كنت أعرف الدرب الذي طالما سلكته في العام الماضي، مع أخي الأكبر، طالبًا إلحاقي بالمدرسة، دون جدوى..
وذات ضحى، من العام الدراسي الأول، كنا عائدين بعد الدروس. وحين اقتربنا من البيوت تعاركنا.. جاري، وصديقي، وزميلي طارق علي عبد المجيد. لا أذكر السبب. اصطرعنا وحين لمحت قلم الرصاص بلونه الأخضر يسقط على الرمال، أوقفت العراك والتقطت قلمي وسط دهشة عدوي المؤقت. حاول أن يعيِّرني بالجبن ولكنِّي قلت له ببساطة: ((سقط قلمي والتقطه، وإذا أردت العراك فهيا)).. هل بدأت في تلك اللحظة علاقة ما مع القلم؟ لست أدري.. ربَّما كانت محض مصادفة. لا أذكر أننا تعاركنا بعد تلك الحادثة، وظلَّت علاقة خاصة تربطنا بعدما تفرقت بنا السبل ودروب الحياة.
في الصف الثالث كان الأستاذ كامل أبو القاسم يروي لنا حكاية الفِريد ورجال الشمال: فَقَدَ القائد البريطاني رجاله فغادر أرض المعركة على حصانه، ينفخ على بوقه، جراحه تنزف، وقواه تنهار.. ظل التلاميذ صامتين يتابعون في شغفٍ وانبهار. وبينما إيقاع الحصان يتراخى، وأنفاس القائد تخبو، ظلَّ أنين البوق المتقطع يسربل أودية الحزن. فجأة لمحتها تنهمر على خدي زميلٍ يجلس على المقاعد الأمامية، في وضع جانبي، ضمَّ ساعديه إلى صدره، ودموعه تسيل على خدّيه. في تلك اللحظة، هل بدأت ملامح الحكاية؟ لست أدري؟ ظلَّت صورة القائد الجريح على حصانه، تبرق في خيالي، وتحفر أسئلتها، بينما فراشات الحزن تهوِّم في أودية الخيال، تثير مكامن الحنين، الذي ما انفكَّ يراود الذاكرة..
في السنة الرابعة كان الأستاذ كامل أبو القاسم يعلمنا اللغة العربية. قرأنا يومها في كتاب المطالعة قصة أندرو والأسد، وبعد أن رددناها وراء الأستاذ، قرأها عدد من التلاميذ، كلٌّ يقرأ فقرة. أمرنا المعلم أن نغلق الكتب ففعلنا. ثم تساءل: ((من منكم يستطيع أن يحكي القصة؟)).. في حين وجم الجميع، رفعت إصبعي بلا تفكير فأشار إليَّ. ولدهشتي، ولدهشة الجميع، استطعت تسميع فقرة كاملة من الدرس. أمرهم المعلم بالتصفيق وأنا في حيرةٍ من أمري. كنت صغير الحجم ولا أحسب أن علاقتي باللغة العربية كانت حميمة.
تابع الأستاذ كامل أبو القاسم أخباري في المراحل الدراسية التالية، وقال لي ملاحظاته حول قصيدة كتبتها في المرحلة الثانوية، ونشرت في الجريدة الحائطية بنادي البلدة. له الرحمة والغفران فقد كان شمعةً أضاءت دروب الكتابة.
في المرحلة المتوسطة، أشاد معلم اللغة العربية بموضوعات الإنشاء التي أكتبها، ومرة أعطاني جائزة صغيرة وسط دهشتنا جميعًا. فالإنشاء مادة لا يهتم بها أحد، ولا نعلم، ولم يعلمنا أحد شروط تحسين الكتابة، ولا يهمنا ذلك. فقد انحصر التنافس بين التلاميذ في مادتي الرياضيات واللغة الإنجليزية. كنتُ ممتازًا في الأولى، وضعيفًا في الثانية. أما اللغة العربية فلقد ظلَّ يضجرني النحو والصرف. كنتُ أهوى ترديد القصائد وأحفظها قبل أن ندرسها، ولكنِّي كنت بالكاد أنجح في مادة اللغة العربية.
في نهاية الصبا ومطلع الشباب، تحول ذات الواقع المنزلق على شفير الإبهام، إلى محاور مرفوضة، على مستوى النسق، والسياق، والمعنى.. وفي أوج المراهقة، ظلَّت المحاولة جسورة، ومشاكسة، في رفض الواقع برمته، ونسج عوالم من الخيال، والأوهام. ترفدها الأغاني، والتهويم على شاطئ النهر، ومغازلة أطياف الفتيات الرائعات، ومطاردة السحاب، وتأمّل الشموس الغاربة، وتحويل الواقع إلى فنتازيا.. هي الحكاية إذن، مرةً أخرى، في سياق التمرد، والتحول الفسيولوجي، والنفسي..
وفي مطلع الشباب، في حمى البحث عن أيدولوجيا، عن فكرةٍ ما، أو معنى. كان الواقع يبدو آنذاك قاسيًا، وصلدًا، وفضائحيًا.. كما وصفه الشاعر الرائع محمود درويش، الذي ترنَّمنا بأشعاره كثيرًا، وشيَّدنا منها بعض أحلامنا.
الشاعر السوداني محمد عبد الحي، بأشعاره المنحوتة من صخر المعنى والاحتمال، رسم بعضًا من ملامح الدروب، التي سلكتها بحثًا عن معنى، ربَّما، أو عن حكاية..
الشهيد الأستاذ محمود محمد طه لعب دورًا حاسمًا في مسيرتي الفكرية. توقفت عنده طويلًا، وقرأت له كثيرًا. كنت قبلها أهوى الأفكار الماركسية، التي راودت مخيلتي ووجداني، لأنَّها تبشِّر بعالمٍ جديد يسوده العدل والسلام. ولكن أفكار الأستاذ محمود أضاءت آفاق البحث والمعرفة.
وفي مسيرتي للتعامل مع مراوغة الحياة، وفخاخها المتواترة، أدركنا زمان العبث واللا جدوى. ظلَّت أشعار رامبو، وكتابات سارتر، ولوحات سلفادور دالي، تهتك عرى الواقع، وتعريه، لتنهض الحكاية القديمة المتجددة، كنسقٍ مقبول، يجسد المركز، ويحيل الواقع إلى الهامش المراوغ، المتشظي.. وكلما ازداد الواقع شراسةً، وغموضًا، تتجلى الحكاية كأبهى ما يكون، كمرفأ للحنين.. فالحكاية هي المأوى.
آلام فرتر للكاتب الألماني جوته ظلَّت محطة باهرة في مسيرتي السردية. قرأتها في مطلع الشباب فبكيت.. عاش الفتى فرتر حياته الافتراضية دون أن يفقد حبيبته، التي تزوجت الثري إدوارد. ظلَّت عوالم فرتر هي الحقيقة، التي عاش من أجلها، ومات بها، ولها. فالحكاية تنهض بديلًا للواقع، وتصحيحًا له. خلق فرتر عالمه الخاص، وآوى إليه، إلا أنَّه وبطلقةٍ واحدةٍ، غادر المأوى الآمن المؤقت، الواقف على أسنة الانهيار.. ومثله فعل مصطفى سعيد حين آوى إلى قريةٍ عند منحنى النيل. تزوج وأنجب، وأصبح فردًا من أهل القرية، يشاركهم في الأفراح والأتراح.. هكذا نسج الطيب صالح رواية موسم الهجرة إلى الشمال، لتمنح بطلها الأمان الذي فَقَدهُ في إنجلترا، إلا إنِّه وفي ليلةٍ عاصفة، حين زمجر النهر، واصطرعت الأمواج، غادر إلى المجهول، ليؤكد أنَّ المأوى رهانٌ خاسر، وإنَّ المتاهة هي الأصل، والمنتهى. وهكذا فعلت فيرمينا داثا في رائعة الكولومبي غارثيا ماركيز. تزوجت طبيبًا مرموقًا من عائلةٍ ثرية، وأنجبت أبناء تعلموا وتقلدوا المناصب الرفيعة، ثم انتاشها نداء القلب بعد رحيل زوجها. كأنَّ كلّ حياتها الماضية هي مقدمة لتبدأ حكاية زواجها من حبيب الشباب، الذي انتظر بلا كللٍ لأكثر من نصف قرن. وعندما ارتعش الجسدان على مرجل النشوة، كان زمان الكوليرا يحيط بالمأوى، بالأمان المؤقت. حينها رفعا علم السفينة وأبحرا في لجج المجهول. ومثلهم فعل الصغير أليوشا في رواية الإخوة كرامازوف للروائي الروسي الفذ دستيفسكي. لجأ إلى الكنيسة، إلى الأب زوسيما هربًا من الواقع الفادح. وعندما ظنَّ، وربَّما أيقن أنه أدرك الأمان، أو كاد.. داهمته الأحداث فانزلق إلى مرجل الشك، والقلق، والحيرة..
تتقلب الأيام وتنفتح دروب الكتابة التي كانت تبدو عشوائية. وكلَّما توغَّل الدرب ازدادت الوحشة، وضراوة الأسئلة. في العطلة الصيفية، عند منتصف النهار والزملاء يلعبون ورق الكوتشينة، تحت ظلال النيم على شاطئ النهر. راقبت اللعب لبعض الوقت، ثم صعدت إلى الرصيف أتأمّل الأمواج والطيور المرفرفة فوق المياه. حياني بلطفه المعهود، عصام يحيى الصافي. كان بصحبته صديقه وزميله بكلية الهندسة جامعة الخرطوم. قالا لي بعدما أشارا إلى الطلاب المنهمكين في لعب الورق: هذه البلدة تحتاج إلى حركة مسرحية منظمة.. أومأت موافقًا ثم طرقت موضوعًا آخر. عادا بالحديث مرةً أخرى إلى المسرح، وعن ضرورة العمل الجاد، والفوري، لقيام حركة مسرحية، تستوعب طاقات الطلاب في العطلات الصيفية، وتُحرّك ليالي البلدة الراكدة. قلت لهم قيام المسرح ممكن وضروري، ولكن مَن يبدأ؟ ومتى؟ وكيف؟ ابتسما وقالا لي إنَّهما اختاراني لأبدأ معهما هذه المهمة. لم أرفض ولم أوافق، ولكنِّي تساءلت ببساطة إن كنتُ أهلًا للمهمة التي أزمعا أن يشركاني فيها. وافترقنا، وشاءت الأقدار أن يرحل عصام يحيى الصافي إلى الدار الآخرة. وسط دوامة الحزن والأسئلة الحائرة همدت الفكرة لعامٍ كامل.
هذه المرة زارني في المنزل عثمان عباس، وحدثني عن ضرورة بداية الحركة المسرحية، بعدما وافق اتحاد طلاب الكوة على قيام فرقة مسرحية باسم: ((فرقة عصام الصافي الثقافية للإبداع)).. تذكرت ذلك اللقاء في العام الماضي، والراحل عصام حضورًا بيننا، بذهنه المتوقد وابتسامته الوديعة.. عثمان عباس مدَّ لي نسخة من مسرحية: ((بنك القلق)).. للكاتب المصري توفيق الحكيم، وقال لي بإمكانك سودنتها. وعندما حاولت الاعتراض، فاجأني بقوله لا أحد في هذه البلدة سينجز هذه المهمة.. قبلت التحدي، أو قل وفاءً لصديقنا الراحل كان لا بدَّ من المغامرة. خرج عثمان عباس فدارت بي الذاكرة والراحل عصام يحيى الصافي يقود الحوارات العميقة المثمرة. قرأنا يومًا كتاب: ((ضرورة الفن)).. للكاتب إسحق دويتشر. تحلّقنا يومها على شاطئ النهر، تحفّنا الثقة والأمل. وها هي الأيام تدور ويرحل عن عالمنا صديقنا الأكثر ذكاءً، وصدقًا، ومحبة..
بدأت قراءة مسرحية بنك القلق، ولكن سرعان ما أدركني الملل، فوضعت الكتاب جانبًا وانصرفت مهمومًا يناوشني السؤال: كيف لي أن أتعامل مع هذا النص؟ على شاطئ النهر خطرت لي فكرة أن أقتبس من المسرحية فكرتها الأساسية، وهي إنشاء بنك للقلق لتلقي شكاوى المواطنين.. بعد أيام كتبت مسرحية بنك القلق التي طرحت مشاكل البلدة مع الماء والتعليم والعلاج. فرقة عصام الصافي للإبداع عرضت المسرحية في نادي الكوة، البلدة الوادعة على النيل الأبيض.. ظلَّت الفرقة تعمل لثماني دورات حتى داهم السلطة عسكر الهوس الديني، فحلُّوا اتحاد طلاب الكوة، وصادروا أوراقه وأختامه، وأوقفوا كل النشاطات الإبداعية!! أيُّ ظلامٍ طوَّق الوطن وما يزال..
سافرت في منحة إلى الاتحاد السوفيتي لدراسة هندسة الكمبيوتر. قبل السفر قال لي الصديق الحاج الطيب: ((ما لك ودراسة الهندسة؟! فطريقك الأدب)).. أومأت برأسي موافقًا ونداءٌ غامضٌ ينبض بالاحتمال. درست اللغة الروسية في مدينة خاركوف، ثم انتقلت إلى ليننغراد. درست عامين وتسكعت عامًا كاملًا على ضفاف نهر النيفا، قبل العودة إلى الوطن.
في العام 1988 بدأ سِفر المتاهة في المنافي والدروب. انتاشتني المطارات في أثينا وبغداد والقاهرة. مشَّطتُ ساحل البحر الأبيض المتوسط من الإسكندرية إلى مرسى مطروح، إلى بنغازي وطرابلس حتى الحدود الليبية التونسية. كتبت الشعر في جنوب سيناء، والقصة في طرابلس. قراءاتٌ كثيفةٌ ورحيلٌ متواتر، ودفقاتٌ من العشق والإحباط.. وفي أوج النجيع، خطر بذهني أن أكتب رواية.. عبرتُ الصحراء الكبرى على ظهور اللواري من ليبيا إلى السودان، وكان الخريف من العام 1992 هكذا بدأتُ من البلدة كتابة الرواية..
عدتُ مرة أخرى إلى القاهرة، مكثت فيها عامين ثم غادرتها إلى أوكرانيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. عشتُ في مدينة أوديسا على البحر الأسود لمدة ثمانية أعوام. في يونيو من العام 2003 عدتُ إلى الوطن متفرغًا للكتابة..